عبد العزيز الدوري

رحل المؤرخ عبد العزيز الدوري (1919- 2010)، يوم الجمعة المصادف 19 تشرين الثاني، وبرحيله يكون العِراق فقد أحد رموزه الكبار في التاريخ، مِنْ أمثال الدوري نفسه وجواد علي (ت 1987) والقائمة تطول. “إيه أيها النهر الذي أنتج كل شيء، لقد نشرت الآلهة الخصب على جنباتك حين شقتك”. بهذا الدعاء السومري استهل المؤرخ عبد العزيز الدوري أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه، من جامعة لندن 1942 بإشراف المستشرق الروسي فلاديمير مينورسكي (ت1966)، صاحب “حدود العالم” ودراسات إسلامية عديدة، وكتب عن ديانات ومذاهب جبال ووديان العراق. والدوري في أطروحته الموسومة “تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري”، والتي نُشرت بثلاث طبعات (بغداد 1948، بيروت 1974 و1995) بدأ مؤرخاً دقيق الرواية قوي العبارة، مهندساً للبحث العلمي، ولأنه عالم، لا يشك في أعلميته، لم يتأخر من طلب ملاحظات زملائه، ووشح كتبه بالشكر لهم، زملائه الذين مثله بحثوا عن عيش خارج العراق وماتوا هناك. وما الاستهلال بالدعاء العراقي القديم إلا تأكيد انحداره من حضارة ضاربة بالقدم.

أذكر هذا لأن الدوري تجاوز المألوف فجاءت باكورة أعماله الأكاديمية ناضجة إلى هذا الحد، ولابد لأستاذه مينورسكي من دور في ذلك، وهذا لا يغيب أعماله اللاحقة وأهمها، من وجهة نظري، “بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب” و”مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي”. هذا من جانب ومن جانب آخر يُعد عبد العزيز الدوري ظاهرة تلفت النظر في مجال البحث التاريخي، فأكثر من ستين عاماً، وهو يكتب بوتيرة عالية من النشاط، ثابتاً على ما بدأ به من آراء وأفكار، دقيقاً في نقله، يبث الحيوية في المادة التاريخية ليجيب على تساؤل عام “ما فائدة ما فات”؟ طالما سمعه من تلامذته، وحاول استفزازه به مدعو المعاصرة خارج إطار التاريخ.

 

صومعة التاريخ
عند قراءة مؤلفات عبد العزيز الدوري يشعر القارئ أنه داخل صومعة مؤرخ لا يشغله شاغل غير التاريخ، غير الماضي الممتد في الحاضر والمستقبل، دهور متشابكة الأحداث، لا يمكن عزل بعضها عن بعض بسؤال مثل: ما الفائدة من دراسة التاريخ؟ وهل كان مؤرخنا ماضويا إلى درجة أنه لا يلتفت إلى الحاضر والمستقبل إلا عبر حدث كان؟ أم هناك غرض آخر جعله يصرف أكثر من ستين عاماً ولا زال باحثاً عن ما فات! نعم هناك مَنْ يلزم محراب التاريخ، مثله مثل البكائين على الأطلال والذكريات، كانوا مدفوعين ببؤس الحاضر وضبابية المستقبل، إلا أن التاريخ عند الدوري وسيلة لتقويم الحاضر وتجاوز ما يمكن تجاوزه من النكسات، كأحداث تعيد نفسها على مسرح الزمن، فإن صحت عبارة التاريخ يعيد نفسه، فلماذا لا تكون عودته بطريقة أخرى يتجاوز بها الأحفاد عثرات الأجداد؟

 

ذاكرة الأصدقاء:
وجدت في ذاكرة المعماري المعروف محمد مكية مكانة خاصة لصديقه القديم عبد العزيز الدوري، ولعل سائلاً يسأل ما يجذب المعماري للمؤرخ وبالعكس، هل هو اهتمام مكية بتراث بغداد العباسي، والعمق السومري والبابلي والآشوري بالعراق، أم هو المجال الأكاديمي، بين رئيس الجامعة ورئيس القسم المعماري في كلية الهندسة؟

وما بين الرجلين اختلاف في الاهتمام والتوجه، فبالوقت الذي ظل الدوري وفياً للفكر القومي، باحثاً عن جذوره التاريخية في الاقتصاد والمجتع العربي ظل محمد مكية متعاطفاً مع الفكر الإنساني خارج الحدود القومية، ويظهر اهتمامه هذا من تجاوز النظرة القومية لما حوله، وعندما يتحدث عن صديقه الدوري كأنه فقد فيه بدايات لمسها فيه من عهد الشباب، عبر تعاطفه مع أفكار أساتذة بريطانيين ومستشرقين آخرين، وهو يدرس بلندن، لذا يتكلم عنه دون أن ينسى استغرابه، الذي يوجزه بالعبارة “لا أدري لماذا كتب الدوري عن الشعوبية بهذه الطريقة؟ غير أن محمد مكية يعتبر الدوري وفياً لعلمه بالدرجة الأولى، وعلى حد عبارته: كان ذكياً جداً في مجاله، علماً فذاً في التاريخ، لديه قدرة على الإقناع في المواقف الحرجة، متنور وإنساني في تعامله مع الآخرين، ولم يلمس منه تعصباً مع انحيازه الكلي في بحوثه للفكر القومي.

 

وحينما يسرد المعماري مكية ذكرياته عن صديق أو مدينة عراقية لا ينسى مشروعه الطموح “جامعة الكوفة”. فقلت له: وأنا أحاول أن أجمع مادة وافية عن عبقة من عبقات العراق، مثل عبد العزيز الدوري: ماذا كان موقف مؤرخنا من المشروع وهو رئيس جامعة بغداد يومذاك؟ قال مكية: الدوري لم يرفض لي طلباً، ويحاول بطريقة وأخرى أن يلبي طلباتي، لا محاباة للصداقة، بل لأنه يقدر دوافعي ويشعر بهمومي، لذا لم أجده ضد المشروع، الذي أعتبره البعض خطأً، مشروعاً طائفياً، لأنه يقع في منطقة شيعية ويجاور النجف الأشرف، غير أنه بطريقة ما كان يحذر من إشاعة التعليم الأهلي، ويميل إلى بقاء التعليم تحت ضوابط الدولة، وعندها ذكرته بجامعة كامبردج وغيرها من الجامعات الدولية، كيف تهيأت إلى هذه المنـزلة عبر التعليم الأهلي. وأتذكر أنه طلب مني أن أتولى مهام نيابة رئاسة جامعة بغداد، رغم أني مهندس معماري، رفضت لعدم قدرتي على تولي منصب إداري، أو أن أكون تحت رئيس مع أن الدوري إن حصل وأصبحت نائباً له لا يشعرني مثل هذا الشعور. كذلك قدر اعتراضي على مقترحه في إلحاق معهد الفنون الجميلة بقسم الهندسة المعمارية.

 

كان مكية يجالس عبد العزيز الدوري لحظة إضرابات طلبة الجامعات (1968)، وكان يسمع الهتاف الطائش “اعدموه للدوري”، وقد شعر مكية بقلق المؤرخ من هتاف الطلبة، فليس له علاقة إلا بانتظام الطلبة في كلياتهم، أما حالة البلد السياسية التي اعترض عليها الطلبة فليس مسؤولية رئيس الجامعة.

سألت أحد الطلبة الذين شاركوا في تلك الإضرابات وعلا صوته بهذا الهتاف في فورة الشباب، وهو اليوم من المعجبين جداً بالدوري، عن مغزى الهتاف، ضحك وقال: لا أدري؟

 

مؤسس كلية الآداب
عاد عبد العزيز الدوري إلى العراق بعد الدراسة الجامعية بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية (1939-1940) ولنبوغه المبكر في علم التاريخ رُشح لدراسة الدكتوراه في المدرسة نفسها، ليكون مدرساً بدار المعلمين العالية (1943) وأن تسند إليه مهمة تأسيس كلية الآداب والعلوم ببغداد، وهي نواة جامعة بغداد، التي سيكون رئيسها فيما بعد. وحسب ما كتبه زميله الدكتور أحمد صالح العلي، رئيس المجمع العلمي العراقي السابق، أن الدوري فصل من الوظيفة بعد ثورة 14 تموز 1958، بحجة تعاطفه مع نوري السعيد، ذلك لأن الأخير كان يقدر جهوده العلمية ونشاطه الأكاديمي، ولم يستمر بعيداً عن الوظيفة غير الستة أشهر بعدها أعيد أستاذاً للتاريخ الإسلامي في كلية الآداب، التي كان يتولى عمادتها.

 

اختيار رئيس الجامعة
قال العلي موضحاً حيثيات تولي عالم الفيزياء عبد الجبار عبد الله (ت 1969) بدلاً عن عبد العزيز الدوري لرئاسة جامعة بغداد، مع أن الأخير كانت له خبرة تأسيس كلية الآداب وإدارتها لسنوات: “كان القانون يقضي أن يرشح مجلس الجامعة أسماء ثلاثة تختار الجهة العليا أحدهم لرئاسة الجامعة، وقد حاز الدكتور الدوري على أكثر الأصوات، وتلاه الدكتور عبد الجبار عبد الله، ثم مرشح ثالث وضع اسمه لتكميل العدد… ولكن عبد الكريم قاسم اختار عبد الجبار عبد الله للرئاسة، فتوسع التباعد بين الدوري وعبد الجبار” (مجلة الجديد في عالم الكتب والمكتبات).

وانقسم الجمهور العلمي والأكاديمي إزاء العالمين إلى يساريين مع عبد الله وقوميين مع الدوري، وظل الحال عليه حتى شباط 1963، يومها اعتقل عبد الجبار عبد الله لأنه كان محسوباً على اليسار وعبد الكريم قاسم، ليصبح مؤرخنا رئيساً للجامعة لكن وسط أجواء ملبدة وحرجة جداً. وما حز بالنفس أن الدوري نفذ أمراً لقيادة انقلاب 8 شباط 1963 بفصل خيرة الأستاذة من علماء وأدباء ومؤرخين وفنانين، واحتفظ بنسخة من أمره الصادر آنذاك وبتوقيعه، عطفاً على قرار قيادة الانقلاب. لكن لا يجب أن نحصر المؤرخ الدوري بهذا الفعل، ولا أظنه ظل منسجماً مع ما فعل، فهو الآخر وصلت النار إلى أذياله فهجر بغداد، قبل سقوط النظام بزمن طويل، ومات بعمان.

لم يترك الدوري زميله وصديقه العالم عبد الجبار عبد الله يهان وربما يصفى جسدياً، فقيل إنه سعى في إطلاق سراحه بالتنسيق مع وزير التربية أو المعارف آنذاك أحمد عبد الستار الجواري. سألت أحد المعتقلين مع عبد الجبار عبد الله حول ما حدث له، قال: أهانوه وكانوا يبصقون على وجهه، ويوماً نودي عليه لمقابلة شخص ما، فعاد بعد مغادرة ذلك الشخص مهاناً، فقلنا له: مَنْ رأيت قال: صديقي الدكتور عبد العزيز الدوري، وأنا لا أعرف منْ يكون الدوري، قلت له، هو الذي أمر بإهانتك، وعندها أصر عبد الجبار على مساعدة الدوري له، قائلاً: لا، الدوري صديقي وقدم لمساعدتي”، وفعلاً كانت النتيجة أن عبد الجبار أُطلق سراحه بمساعدة الدوري، والأخير كما نعلم وإن كان قومياً لكنه لم يكن في يوم من الأيام حزبياً.

غير أن هذا التفاضل بين عالمين يخبر عن زمن جميل، يحترم العلم والعلماء إذا ما قيس ذلك بتربع شخص مثل سمير الشيخلي، ليس رئيساً لجامعة بغداد، وإنما وزيراً للتعليم العالي وقس على هذا. وإن أُقيل عبد العزيز الدوري من رئاسة الجامعة من قبل عبد السلام عارف، أعاده عبد الرحمن عارف ليفصل منه بعد انقلاب 17 تموز 1968، ويعتقل لمدة عام، ثم تضطره الظروف للهجرة.

نفائس كتبه
ليس لدينا ما يغني الحديث عن حياة المؤرخ الدوري غير الشذرات التي جمعناها من هنا وهناك، لكن المؤكد أنه جعل علم التاريخ محرابه، ومن “معجم المؤلفين”(1800-1969) لكوركيس عواد نسجل لمؤرخنا عناوين الكتب التالية: “ابن خلدون والعرب”، “بحث في نشأة علم التاريخ”، “تفسير التاريخ”، “الجذور التاريخية للاشتراكية العربية”، “الجذور التاريخية للشعوبية”، “الجذور التاريخية للقومية العربية”، “دراسات في العصور العباسية المتأخرة”، “دراسات في علم التاريخ عند العرب”، “دراسات في سيرة النبي”، “ضوء جديد على الدعوة العباسية”، “العصر العباسي الأول”، “الفكر العربي في دور التجديد والتقليد”، “في الوعي العربي”، “ما ساهم به المؤرخون العرب في المائة سنة الأخيرة”، “مستقبل الفكر العربي”، “مقدمة في تاريخ صدر الإسلام”، “مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي”، “موجز تاريخ الحضارة العربية”، “نشأة علم التاريخ عند العرب”، “نشوء الأصناف والحرف في لإسلام”، “نظرات في الوعي العربي”، “نظرة إلى تاريخ صدر الإسلام”، “النُظم الإسلامية”، “الوعي القومي”، ثم صدرت له دراسة بعنوان “التكوين التاريخي للأمة العربية.. دراسة في الهوية والوعي”، إضافة إلى الكتب المشتركة والتحقيقات.

أشارت عناوين المؤرخ الدوري إلى انشغاله بثلاثة هموم، وهي: التاريخ الاقتصادي العربي، والقومية العربية، وعلم التاريخ، والثلاثة يجمعها جامع واحد هو تأصيل الفكر القومي العربي، أو حسب ما يسميه أحياناً بالعروبي. وما لا يُنسى للدوري، إذا لم أكن مخطئا، ريادته بين المفكرين في الشأن القومي، في البحث عن أصول التكوين القومي عبر التاريخ الاقتصادي. فقد فسر ظهور الحركات الاجتماعية والسياسية في الإسلام بالعامل الاقتصادي، وهذا ما ظل محتكراً للفكر الماركسي، الذي اقترب الدوري منه في بعض البحوث، عندما قال: “التفاوت الاقتصادي أدى إلى قلق اجتماعي وإلى قيام حركات اجتماعية”.

 

الجذور الاقتصادية
نعود إلى محتويات كتابه الهام الذي يستفتح فيه دراسته للعامل الاقتصادي ودوره المؤثر في حياة الشعوب “تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري”، بعد تشخيص حدود العراق الجغرافية، تلك الحدود التي يحاول البعض اليوم إلى اعتبارها خطوطا من رمل، فالدوري نظر جيداً في صورة العراق المرسومة بيد أبي زيد البلخي، في القرن الرابع الهجري، ونظر في كتب المسعودي الذي حدد حد العراق الجغرافي من آثور إلى عبادان، وبعد مناقشات طويلة مع ما كتبه الجغرافيون، قال الدوري في حدود العراق: “إن بلاد ما بين النهرين بمنطقتيها العراق والجزيرة يحدها خط يبدأ من عبادان على الخليج العربي، ويسير شمالاً إلى جُبى (بلدة بصرية أنجبت مفكرين وفقهاء عديدين) فالطيب فحلوان ثم يتجه وجهة شمالية غربية إلى تكريت ثم السن ثم حديثة ثم الموصل ثم جزيرة ابن عمر…”.

وربما أغضب الدوري في كتابه “الجذور التاريخية للشعوبية”، باحثين ومؤرخين اختلفوا معه في التوجه الفكري، لما في العبارة من استعلاء على الشعوب الأخرى، ومؤرخنا لم يصرف كثيراً من الوقت في الكتابة عن هذه الظاهرة إلا ما تطلبته الخلافات الفكرية وقتذاك، ما بين 1958-1963. وإذ تحدث عن الشعوبية كحركة موجهة ضد القومية العربية، حسب ما قدمه في كتابه الخاص، لم يغفل الاستبداد الأموي الذي دفع بالشعوب الأخرى أن تواجه العرب وتبحث عن مثالبهم، وربما كتاب ابن الكلبي، وهو عربي، “مثالب العرب” وكتب الأعاجم الذين كتبوا في فضائل العرب تضعنا أمام إشكالية فهم المواجهة بين العرب والموالي، الذين انتصر لهم مؤرخنا في أكثر من مكان.

قال الدوري منتصراً لغير العرب: “يلاحظ أن النظرة القبلية كانت العامل الأول فيما يبدو من تمييز أو تعال في النظر لغير العرب، وفي مقاومة تسجيلهم في الديوان وإعطائهم الأعطيات، بخلاف النظرة الإسلامية”. وجوهرها الآية الكريمة “وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا”. ونضيف عبارة للخليفة الأموي السابع سليمان بن عبد الملك (ت99هـ) لا يُستغنى عنها بالحكم في مثل هذا الموقف، قال سليمان: “عجبت لهذه الأعاجم، ملكوا ألف سنة لم يحتاجوا إلينا ساعة واحدة في سياستهم، وملكنا مائة سنة، لم نستغن عنهم ساعة واحدة” (الزبير بن بكار، الأخبار الموفقيات).

 

عروبة التشيع
وإذ جرت محاولات إعلامية لتعميم مصطلح الشعوبية وتسويقه من جديد أوان الحرب العراقية الإيرانية فإن الدوري ظل بمعزل عن هذه الميول، بل وحاول أن يرد على منْ جعل من شيعة العراق غرباء عن قوميتهم العربية ووطنهم العراق، أعلن ذلك بجرأة في ندوة “العلاقات العربية الإيرانية” التي أقامها مركز الوحدة العربية بقطر (1995) قال: “لكن التشيع لم يميز إيران من العرب، فالتشيع بدأ عربياً، ووجد مركزه الأول في العراق” (الكتاب، ص58). إن عبارة الدوري الأخيرة فيها من الاحتجاج الكثير على حملات التهجير التي طالت آلاف العائلات العراقية بذريعة التبعية الإيرانية، مع أن هذه الحالة خلقها رسمياً قانون الجنسية العراقية 1925، الذي لم يراع ظروف الخدمة العسكرية في العهد العثماني، والاضطرار إلى الاحتماء بجنسية دولة أخرى غير الدولة العثمانية، مع أن الدولتين أجنبيتان، ولا يصح الحكم على عراقية العراقي بالجنسية التركية. وأكثر من هذا أراد الدوري بتساؤله الآتي “هل يكون المذهب صلة وسبب تعاون وبناء بين أمتين في العصر الحديث أم يتخذ سبيلاً للقطيعة والأذى؟”، أن يكون التشيع صلة وصل وعلاقات طيبة بين العراق وإيران لا أن يكون سبباً لحرب دامت ثمان سنوات، وسببت ما سببته من دمار وخراب.

تكامل التاريخ
نظر عبد العزيز الدوري للتاريخ زمناً متكاملاً، لذا نعت تقسيم أحداثه بالضعف، ففي عرفه ليس هناك تاريخ ثقافي واقتصادي وسياسي واجتماعي، ومن الضعف أيضاً، حسب رأيه، أن تتأثر قراءة التاريخ بالحزبية أو الشعوبية (بمعنى التعصب لشعب من الشعوب لا بمعنى الشعوبية المصطلح المعروف)، ومن الضعف أيضاً إغفال العامل الزمني والتطور الطبيعي في الحركات والتبدلات التاريخية، ومن الضعف أيضاً، وهذا هو الأهم، أن يُنسب التاريخ للأشخاص، فالعصور التي نقرأ عنها عرفت بعصر معاوية والرشيد ونبوخذنصر إلخ. وبطبيعة الحال ما تبثه الآلة الإعلامية من بغداد لا توافق هذه النظرة العلمية. والدوري سبق أن ترجم ملاحظته الأخيرة في كتابه “تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري”، وفيه أرخ للحرفي والصانع والعامة جميعاً.

لمؤرخنا رأي في عدم سريان اللغة العربية بالبلاد الإيرانية الناطقة بالفارسية، بينما سرت بسهوله في المناطق السريانية والآرامية بالعراق، أورد ذلك في كتابه “القومية العربية والإسلام”، قال: “إن العرب تركزوا في مدن أو مراكزها بجوارها، ولم ينتشروا في الريف، كما أن اللغة الفارسية القديمة استمرت لغة حياة، بل استعملت في بعض الكتابات الدينية، الزرادشتية، بعد هذا فإن اللغة الفارسية الجديدة بدأت تظهر منذ أواخر القرن الثالث الهجري لتصبح لغة ثقافة، هذا إلى وجود تراث حضاري ووعي تاريخي، مما ساعد على تقلص ظل العرب” (ص108). والقرن الثالث هو ازدهار الدولة العباسية، التي اعتمدت بشكل خاص على خراسان، حيث بلاد فارس. ووصف تعريب العراقيين بالتعريب الهادئ، وكان لهذا الهدوء أسبابه، منها أن اللغة الفارسية كانت لغة احتلال، وثانياً هناك صلاة بين العربية والسريانية والآرامية وتواجد عربي ملحوظ بالعراق قبل الإسلام ينطلق من الحيرة ودائرها.

 

إلى المستقبل
اعتبر الدوري دراسة التاريخ “بداية لازمة للانطلاق إلى المستقبل”، لكن مهما حاول المؤرخ، أي مؤرخ، الإفلات من الماضي لجعله وسيلة إلى حياة أفضل بعد الاستفادة من تجارب السابقين إلا أنه يظل مسكوناً بالماضي، ففيه متعته واستكمال شخصيته، فنحن لا نستطيع أن ننظر إلى صورة الدوري دون أن نستحضر بأذهاننا العصور الخوالي، وما يسر قارئ الدوري أنه أمام مؤرخ تجاوز ما يؤثر سلباً في الدراسة التاريخية. ففي كتابه “النظم الإسلامية” التي من خلال دراستها، والعبارة عبارته، تُكشف عوامل نشوء الفرق الإسلامية، والحروب الأهلية في الإسلام، وثورات الموالي والحركة الشعوبية، مؤكداً على دراسة السياسة المالية ونظم الضرائب، وكل ما يتعلق بالدولة ورعاياها.

 

مع المؤرخين
في كتابه “بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب”، تبسط الدوري في البحث بتاريخ علم التاريخ، بداية من الإخباريين والقصاصين إلى المؤرخين، وشخص في تاريخ العلم مدرستين، المدرسة الحجازية، وهي مدرسة المدينة، المتأثرة بالنظرة الإسلامية الدينية، وبمدرسة الحديث، والمدرسة العراقية، المتأثرة بالشعور القبلي، حيث كتب الأنساب والقبائل وأيامها. وقد سجل تقييمات صائبة لكل أخباري ونسابة ومؤرخ.

فالبلاذري الذي حقق الدوري جزء من كتبه “فتوح البلدان” نسج تاريخه “حول الأرستقراطية العربية” وكتابه عبر عن “رسالة الأمة الأساسية إلى الجهاد ويسد بعض الحاجات الفقهية والإدراية”، واليعقوبي كتب كتابه كتاريخ عام لا يخلو من ميول علوية، بينما فكر ابن قتيبة بطبقة الكتاب وحاجتهم إلى تاريخ موجز، أما الطبري، وتاريخه أشمل التواريخ إلى قبل وفاته بقليل “أراد أن يوضح مشيئة الله وأن يجعل من تاريخه دليلاً على فعاليات الأمة جنب تفسيره العظيم”، وهو أفضل مثال لمدرسة الحديث التاريخية. ولعلي لم أكن مخطئا في عدم عثوري، في كتاب مؤرخنا “بحث في نشأة…” على اسم المؤرخ والنسابة البغدادي الذي غرف منه أكثر المؤرخين، وهو محمد بن حبيب (ت245) صاحب “المحبر” و”المنمق”، والذي غرف منه المؤرخون الكبار ومنهم البلاذري، و ربما لمؤرخنا رأي لا نعرفه.

أقول: إن الكتابة عن مؤرخ بحجم عبد العزيز الدوري لا يكفيها مقال، لذا أقف عند هذا الحد، لأختم بالقول الذي وصف فيه الدوري نفسه عندما تحدث عن صاحب المغازي “والواقدي صريح في رواياته، ومع وجود ميول علوية لديه إلا أنه بعيد عن التحزب”. والدوري صريح العبارة ومتسلسل الخبر مع وجود ميول قومية إلا أنه ظل بعيداً عن التحزب، وحزبه الذي يعنيه الآن هو علم التاريخ، فماذا يُقال لصاحب ستين عاماً وهو يصلي في محراب هذا العلم. وهو من الذين كتب لهم محمد طاهر العمري العام 1921، وهو يكتب عن مقدرات العراق السياسية: “أكتب هذا لشبان العراق الذين سيؤلفون الأدمغة المقبلة ليتشعبوا حالا واستقبالاً ما قدر الله على بلادهم من الحادثات السياسية ليتعظوا منها وينهضوا بهذه الأمة التعيسة”، وهؤلاء الذين خدموا العراق بشبابهم وكهولتهم لم يجدوا فيه موطئ قدم، وشبراً يرقدون فيه رقدتهم الأخيرة. أطال الله عمر مؤرخنا.

أختم بالقول: لا يجب أن نبقى أسرى ما ظهر ذلك اللغط السياسي والحزبي، والذي أظهر عبد العزيز الدوري قومياً ليس إلا، وتبوأ رئاسة الجامعة بعد اعتقال رئيسها عبد الجبار عبد الله، ولا يجب أن نظل أسرى ما كتبه الدوري في الشعوبية، لفورة طارئة، علينا أخذ الدوري بكامل ما انتج، والعراق أحق من غيره في الفخر بهذه القامة المديدة. فعلينا تقدير حياته وموته ساجداً في محراب التاريخ، ومجيباً عن الغامض من أسئلته، مِن أجل مستقبل أفضل، فلا مستقبل لمَن لا يتعظ بتاريخه.